فصل: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْإِعَادَةِ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.[الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ]: [السَّفَرُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَصْرُ]:

وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، فَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى السَّفَرِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَحْمَدُ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ دُونَ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قُرْبَةً كَانَ أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَعْصِيَةً وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ أَوْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِدَلِيلِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اعْتَبَرَ الْمَشَقَّةَ أَوْ ظَاهِرَ لَفْظِ السَّفَرِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ دَلِيلَ الْفِعْلِ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي السَّفَرِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ، لِأَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقْصُرْ قَطُّ إِلَّا فِي سَفَرٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: هَلْ تَجُوزُ الرُّخَصُ لِلْعُصَاةِ أَمْ لَا؟
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَارَضَ فِيهَا اللَّفْظُ الْمَعْنَى، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا لِذَلِكَ.

.[الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ]: [الْمَوْضِعُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْمُسَافِرُ بِالْقَصْرِ]:

وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ: وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مِنْهُ يَبْدَأُ الْمُسَافِرُ بِقَصْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ: لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ وَلَا يُتِمُّ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلَ بُيُوتِهَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إِذَا كَانَتْ قَرْيَةً جَامِعَةً حَتَّى يَكُونَ مِنْهَا بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ أَقْصَى مَا تَجِبُ فِيهِ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ: مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ الِاسْمِ لِدَلِيلِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَقَدِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ فَمَنْ رَاعَى مَفْهُومَ الِاسْمِ قَالَ: إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ قَصَرَ. وَمَنْ رَاعَى دَلِيلَ الْفِعْلِ (أَعْنِي فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) قَالَ: لَا يَقْصُرُ إِلَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرْيَةِ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ».

.[الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ]: [مُدَّةُ الْقَصْرِ]:

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ إِذَا قَامَ فِيهِ فِي بَلَدٍ أَنْ يَقْصُرَ فَاخْتِلَافٌ كَثِيرٌ حَكَى فِيهِ أَبُو عُمَرَ نَحْوًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَشْهَرَ مِنْهَا هُوَ مَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ إِنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ الْمُسَافِرُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ.
وَالثَّانِي: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ.
وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ أَنَّهُ إِذَا أَزْمَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَتَمَّ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَالْقِيَاسُ عَلَى التَّحْدِيدِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلِذَلِكَ رَامَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَقَامَ فِيهَا مُقْصِرًا، أَوْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا حُكْمَ الْمُسَافِرِ. فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: احْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا يَقْصُرُ فِي عُمْرَتِهِ»، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ النِّهَايَةُ لِلتَّقْصِيرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا دُونَهَا.
وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: احْتَجُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ مُقْصِرًا، وَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِكُلٍّ قَالَ فَرِيقٌ. وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ: احْتَجُّوا بِمَقَامِهِ فِي حَجِّهِ بِمَكَّةَ مُقْصِرًا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَقَدِ احْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ لِمَذْهَبِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْمُهَاجِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَكَّةَ مُقَامَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ. فَدَلَّ هَذَا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّ إِقَامَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَتْ تَسْلُبُ عَنِ الْمُقِيمِ فِيهَا اسْمَ السَّفَرَ، وَهِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَيْهَا، وَرَامُوا اسْتِنْبَاطَهَا مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (أَعْنِي: مَتَى يَرْتَفِعُ عَنْهُ بِقَصْدِ الْإِقَامَةِ اسْمُ السَّفَرِ) وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ مُدَّةً لَا يَرْتَفِعُ فِيهَا عَنْهُ اسْمُ السَّفَرِ بِحَسْبِ رَأْيِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَعَاقَهُ عَائِقٌ عَنِ السَّفَرِ أَنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا، وَإِنْ أَقَامَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَمَنْ رَاعَى الزَّمَانَ الْأَقَلَّ مِنْ مَقَامِهِ تَأَوَّلَ مَقَامَهُ فِي الزَّمَانِ الْأَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ، فَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ مَثَلًا إِنَّ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الَّتِي أَقَامَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَامَ الْفَتْحِ إِنَّمَا أَقَامَهَا، وَهُوَ أَبَدًا يَنْوِي أَنَّهُ لَا يُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَلْزَمُهُمْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي حَدُّوهُ، وَالْأَشْبَهُ فِي الْمُجْتَهِدِ فِي هَذَا أَنْ يَسْلُكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ لِأَكْثَرِ الزَّمَانِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ مُقْصِرًا، وَيَجْعَلَ ذَلِكَ حَدًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِتْمَامُ، فَوَجَبَ أَلَّا يُزَادَ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، أَوْ يَقُولَ إِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا هُوَ أَقَلُّ الزَّمَانِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ مُقْصِرًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَامَهُ لِأَنَّهُ جَائِزٌ لِلْمُسَافِرِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَقَامَهُ بِنِيَّةِ الزَّمَانِ الَّذِي تَجُوزُ إِقَامَتُهُ فِيهِ مُقْصِرًا بِاتِّفَاقٍ، فَعَرَضَ لَهُ أَنْ قَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ وَجَبَ الْتَمَسُّكُ بِالْأَصْلِ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ أَبَدًا إِلَّا أَنْ يَقْدَمَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْمَ السَّفَرِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْدَمَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْقَصْرِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْجَمْعِ:

وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
إِحْدَاهَا: جَوَازُهُ.
وَالثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الْجَمْعِ.
وَالثَّالِثَةُ: فِي مُبِيحَاتِ الْجَمْعِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [جَوَازُ الْجَمْعِ بين الصلاتين]:

أَمَّا جَوَازُهُ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَيْضًا فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ سُنَّةٌ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَكَانَيْنِ، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا مِنَ الَّتِي لَا يَجُوزُ، وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ بِإِطْلَاقٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَوَّلًا: اخْتِلَافُهُمْ فِي تَأْوِيلِ الْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي الْجَمْعِ وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ، لِأَنَّهَا كُلَّهَا أَفْعَالٌ وَلَيْسَتْ أَقْوَالًا، وَالْأَفْعَالُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَثِيرًا أَكْثَرَ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى اللَّفْظِ. وَثَانِيًا: اخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي تَصْحِيحِ بَعْضِهَا، وَثَالِثًا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِجَازَةِ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْبَابٍ كَمَا تَرَى. أَمَّا الْآثَارُ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الثَّابِتُ بِاتِّفَاقٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ»، وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ».
وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ خَرَّجَهُ مَالِكٌ، وَمُسْلِمٌ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ».
فَذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِلَى أَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ الْمُخْتَصِّ بِهَا وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْقَعَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَصَلَاةَ الْعَصْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ قَالُوا: وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ حَمْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا فِي الْحَضَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ: (أَعْنِي: أَنْ تُصَلَّى الصَّلَاتَانِ مَعًا فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا) وَاحْتَجُّوا لِتَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً قَطُّ إِلَّا فِي وَقْتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ».
قَالُوا: وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآثَارُ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا تَأَوَّلْنَاهُ نَحْنُ أَوْ مَا تَأَوَّلْتُمُوهُ أَنْتُمْ. وَقَدْ صَحَّ تَوْقِيتُ الصَّلَاةِ وَتِبْيَانُهَا فِي الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ عَنْ أَصْلٍ ثَابِتٍ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَأَمَّا الْأَثَرُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِي تَصْحِيحِهِ، فَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَظْهَرَ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي إِجَازَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ قَدَّمَ الْعِشَاءَ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَصَلَّى الْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ لَفْظُ الرَّاوِي مُحْتَمِلٌ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِجَازَةِ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَنْ يُلْحَقَ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فِي السَّفَرِ بِصَلَاةِ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، (أَعْنِي: أَنْ يُجَازَ الْجَمْعُ قِيَاسًا عَلَى تِلْكَ)، فَيُقَالُ مَثَلًا: صَلَاةٌ وَجَبَتْ فِي سَفَرٍ، فَجَازَ أَنْ تُجْمَعَ. أَصْلُهُ جَمْعُ النَّاسِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: (أَعْنِي جَوَازَ هَذَا الْقِيَاسِ) لَكِنَّ الْقِيَاسَ فِي الْعِبَادَاتِ يَضْعُفُ، فَهَذِهِ هِيَ أَسْبَابُ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [صِفَةُ الْجَمْعِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَهِيَ صُوثرَةُ الْجَمْعِ فى السفر) فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَيْضًا الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ (أَعْنِي: فِي السَّفَرِ). فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى الِاخْتِيَارَ أَنْ تُؤَخَّرَ الصَّلَاةُ الْأُولَى وَتُصَلَّى مَعَ الثَّانِيَةِ وَإِنْ جُمِعَتَا مَعًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْأُولَى جَازَ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَعْنِي أَنْ يُقَدِّمَ الْآخِرَةَ إِلَى وَقْتِ الْأُولَى أَوْ يَعْكِسَ الْأَمْرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ رِوَايَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأُولَى رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ مَالِكٍ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ الثَّابِتُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَمَصِيرًا إِلَى أَنَّهُ لَا يُرَجِّحُ بِالْعَدَالَةِ: (أَعْنِي أَنَّهُ لَا تَفْضُلُ عَدَالَةٌ عَدَالَةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا وَجَبَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ إِذَا كَانَ رُوَاةُ الْحَدِيثَيْنِ عُدُولًا، وَإِنْ كَانَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ أَعْدَلَ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [مُبِيحَاتُ الْجَمْعِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (وَهِيَ الْأَسْبَابُ الْمُبِيحَةُ لِلْجَمْعِ بين الصلاتين)، فَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ وَفِي شُرُوطِ السَّفَرِ الْمُبِيحِ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ سَبَبًا مُبِيحًا لِلْجَمْعِ أَيَّ سَفَرٍ كَانَ وَبِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ السَّيْرِ، وَنَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّفَرِ، فَأَمَّا الَّذِي اشْتَرَطَ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ السَّيْرِ فَهُوَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إِلَّا أَنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَمَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ فَإِنَّمَا رَاعَى قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ» الْحَدِيثَ. وَمَنْ لَمْ يَذْهَبْ هَذَا الْمَذْهَبَ فَإِنَّمَا رَاعَى ظَاهِرَ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا كَمَا قُلْنَا فِي نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْجَمْعُ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ سَفَرُ الْقُرْبَةِ كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَهُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ دُونَ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ التَّعْمِيمُ، لِأَنَّ الْقَصْرَ نُقِلَ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَالْجَمْعَ إِنَّمَا نُقِلَ فِعْلًا فَقَطْ، فَمَنِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى نَوْعِ السَّفَرِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجِزْهُ فِي غَيْرِهِ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ الرُّخْصَةَ لِلْمُسَافِرِ عَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْفَارِ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ لَا يُجِيزُونَهُ، وَأَجَازَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مَطَرٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِعُمُومِهِ مُطْلَقًا. وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ زِيَادَةً فِي حَدِيثِهِ، وَهُوَ قَوْلُه: «فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ» وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ لِعُذْرِ الْمَطَرِ، فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي النَّهَارِ، وَأَجَازَهُ فِي اللَّيْلِ، وَأَجَازَهُ أَيْضًا فِي الطِّينِ دُونَ الْمَطَرِ فِي اللَّيْلِ، وَقَدْ عَذَلَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي تَفْرِيقِهِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فِي ذَلِكَ وَصَلَاةِ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ وَتَأَوَّلَهُ: (أَعْنِي: خَصَّصَ عُمُومَهُ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ) وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ» أَرَى ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ قَالَ: فَلَمْ يَأْخُذْ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَلَا بِتَأْوِيلِهِ: (أَعْنِي تَخْصِيصَهُ) بَلْ رَدَّ بَعْضَهُ وَتَأَوَّلَ بَعْضَهُ، وَذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِيهِ: «جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ» وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ: «وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» وَتَأَوَّلَهُ وَأَحْسَبُ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا رَدَّ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ عَارَضَهُ الْعَمَلُ، فَأَخَذَ مِنْهُ بِالْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يُعَارِضْهُ الْعَمَلُ، وَهُوَ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، جَمَعَ مَعَهُمْ، لَكِنَّ النَّظَرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ كَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ مُتَقَدِّمِي شُيُوخِ الْمَالِكِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ لَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ الْبَعْضِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَكَانَ مُتَأَخِّرُوهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مِنْ بَابِ نَقْلِ التَّوَاتُرِ، وَيَحْتَجُّونَ فِي ذَلِكَ بِالصَّاعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا نَقَلَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَالْعَمَلُ إِنَّمَا هُوَ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ لَا يُفِيدُ التَّوَاتُرَ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْقَوْلِ فَإِنَّ التَّوَاتُرَ طَرِيقَةُ الْخَبَرِ لَا الْعَمَلَ، وَبِأَنَّ جَعْلَ الْأَفْعَالِ تُفِيدُ التَّوَاتُرَ عَسِيرٌ بَلْ لَعَلَّهُ مَمْنُوعٌ، وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْبَلْوَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْثَالُ هَذِهِ السُّنَنِ مَعَ تَكَرُّرِهَا، وَتَكَرُّرِ وُقُوعِ أَسْبَابِهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، وَيَذْهَبُ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْعَمَلَ بِالسُّنَنِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ الْبَلْوَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحْرَى أَنْ لَا يَذْهَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَبِرُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي طَرِيقِ النَّقْلِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَمَلُ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ قَرِينَةٌ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالشَّيْءِ الْمَنْقُولِ إِنْ وَافَقَتْهُ أَفَادَتْ بِهِ غَلَبَةَ ظَنٍّ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ أَفَادَتْ بِهِ ضَعْفَ ظَنٍّ، فَأَمَّا هَلْ تَبْلُغُ هَذِهِ الْقَرِينَةُ مَبْلَغًا تُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ الثَّابِتَةُ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَعَسَى أَنَّهَا تَبْلُغُ فِي بَعْضٍ وَلَا تَبْلُغُ فِي بَعْضٍ لِتَفَاضُلِ الْأَشْيَاءِ فِي شِدَّةِ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ السُّنَّةُ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ وَهِيَ كَثِيرَةُ التَّكْرَارِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ كَانَ نَقْلُهَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَشِرَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا فِيهِ ضَعْفٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوجِبُ ذَلِكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَإِمَّا أَنَّ النَّقْلَ فِيهِ اخْتِلَالٌ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ لِلْمَرِيضِ فَإِنَّ مَالِكًا أَبَاحَهُ لَهُ إِذَا خَافَ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ كَانَ بِهِ بَطَنٌ وَمَنَعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعَدِّي عِلَّةِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ: (أَعْنِي: الْمَشَقَّةَ)، فَمَنْ طَرَّدَ الْعِلَّةَ رَأَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْمَرِيضِ فِي إِفْرَادِ الصَّلَوَاتِ أَشَدُّ مِنْهَا عَلَى الْمُسَافِرِ، وَمَنْ لَمْ يُعَدِّ هَذِهِ الْعِلَّةَ وَجَعَلَهَا كَمَا يَقُولُونَ قَاصِرَةً: (أَيْ: خَاصَّةً بِذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ) لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ.

.الْبَابُ الْخَامِسُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بَعْدَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي صِفَتِهَا.

.[حُكْمُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]:

فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} الْآيَةَ. وَلِمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَمَلِ الْأَئِمَّةِ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ بِذَلِكَ، وَشَذَّ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا تُصَلَّى صَلَاةُ الْخَوْفِ بَعْدَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تُصَلَّى بَعْدَهُ بِإِمَامَيْنِ يُصَلِّي وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْآخَرُ بِطَائِفَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْحَارِسَةُ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا وَتَحْرُسُ الَّتِي قَدْ صَلَّتْ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ صَلَاةُ النَّبِي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ هِيَ عِبَادَةٌ أَوْ هِيَ لِمَكَانِ فَضْلِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَمْ يَرَ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَنْ رَآهَا لِمَكَانِ فَضْلِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَآهَا خَاصَّةً بِالنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ يُمْكِنُنَا أَنْ يَنْقَسِمَ النَّاسُ عَلَى إِمَامَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرُورَةُ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَأَيَّدَ عِنْدَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الْآيَةَ. وَمَفْهُومُ الْخِطَابِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ فَالْحُكْمُ غَيْرُ هَذَا الْحُكْمِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْخَوْفِ إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِهَا.

.[صِفَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]:

وَأَمَّا صِفَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ: (أَعْنِي: الْمَنْقُولَةَ مِنْ فِعْلِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ ذَلِكَ سَبْعُ صِفَاتٍ.

.[الصِّفَةُ الْأُولَى]:

فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَصَفَّتْ طَائِفَةٌ وِجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وِجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِمْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

.[الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ]:

وَرَوَى مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ مَوْقُوفًا كَمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: أَنَّهُ لَمَّا قَضَى الرَّكْعَةَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سَلَّمَ وَلَمْ يَنْتَظِرْهُمْ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَالشَّافِعِيُّ آثَرَ الْمُسْنَدَ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَمَالِكٌ آثَرَ الْمَوْقُوفَ، لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ: (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ الْإِمَامُ حَتَّى تَفْرُغَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ صَلَاتِهَا، لِأَنَّ الْإِمَامَ مَتْبُوعٌ لَا مُتَّبِعٌ) وَغَيْرُ مُخْتَلَفٍ عَلَيْهِ.

.وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ:

مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ، رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ وَطَائِفَةٌ مُسْتَقْبِلُو الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينِ مَعَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَانْصَرَفُوا وَلَمْ يُسَلِّمُوا، فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُونَ فَقَامُوا مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ هَؤُلَاءِ، فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا وَذَهَبُوا، فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ إِلَى مَرَاتِبِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا» وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَا خَلَا أَبَا يُوسُفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

.وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ:

الْوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَسَفَانَ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَصَلَّيْنَا الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَصَبْنَا غَفْلَةً لَوْ كُنَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْقَصْرِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَالْمُشْرِكُونَ أَمَامَهُ، فَصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفٌّ وَاحِدٌ، وَصَفَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَفٌّ آخَرُ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ، وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الْآخَرُ يَحْرُسُونَهُمْ فَلَمَّا صَلَّى هَؤُلَاءِ سَجْدَتَيْنِ، وَقَامُوا سَجَدَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى مَقَامِ الْآخَرِينَ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْآخَرُ إِلَى مَقَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ سَجَدَ الْآخَرُونَ، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا، فَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا» وَهَذِهِ الصَّلَاةُ صَلَّاهَا بِعَسَفَانَ وَصَلَّاهَا يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَابِرٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَهُوَ أَحْوَطُهَا يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ كَبِيرُ عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَقَالَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ جُمْلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَخَرَّجَهَا مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ، وَقَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِكُمْ.

.وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ:

الْوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي بِطَبَرِسْتَانَ، فَقَامَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ؟
قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، فَصَلَّى بِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَبِهَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا شَيْئًا. وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ مُخَالَفَةً كَثِيرَةً. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ:الصَّلَاةُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعٌ وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ. (وَأَجَازَ هَذِهِ الصِّفَةَ الثَّوْرِيُّ).

.وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ:

الْوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْحَسَنُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ لِكَوْنِهِ مُتِمًّا، وَهُمْ مُقْصِرُونَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ.

.وَالصِّفَةُ السَّابِعَةُ:

الْوَارِدَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ، وَطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً. وَتَكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصَلُّوا، فَإِذَا صَلَّى الَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً اسْتَأْخَرُوا مَكَانَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا مَعَهُ وَلَا يُسَلِّمُونَ، وَيَتَقَدَّمُ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا، فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ، وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَتَقَدَّمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً رَكْعَةً بَعْدَ أَنْ يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ صَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: الْحُجَّةُ لِمَنْ قَالَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا أَنَّهُ وَرَدَ بِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمُ الْحُجَّةُ فِي النَّقْلِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَهِيَ أَيْضًا مَعَ هَذَا أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ لَمْ يَقْضُوا الرَّكْعَةَ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ سُنَّةِ الْقَضَاءِ الْمُجْتَمَعِ عَلَيْهَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ جَازَ أَنْ يُصَلُّوا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، وَإِيمَاءً مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَلَا سُجُودٍ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَا يُصَلِّي الْخَائِفُ إِلَّا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ هَذَا الْفِعْلِ لِلْأُصُولِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا جَائِزَةٌ، وَأَنَّ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّتَهَا أَحَبَّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا كَانَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَوَاطِنِ.

.الْبَابُ السَّادِسُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّالِثَةِ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مُخَاطَبٌ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ وَيُصَلِّي جَالِسًا، وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَيُومِئُ مَكَانَهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَفِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ وَفِي هَيْئَةِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ وَلَا عَلَى الْقِيَامِ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: هَذَا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ أَصْلًا، وَقَوْمٌ قَالُوا هُوَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ مِنَ الْمَرَضِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلْ يَسْقُطُ فَرْضُ الْقِيَامِ مَعَ الْمَشَقَّةِ أَوْ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ؟
وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، وَأَمَّا صِفَةُ الْجُلُوسِ في صلاة المريض فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَجْلِسُ مُتَرَبِّعًا: (أَعْنِي: الْجُلُوسَ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْقِيَامِ) وَكَرِهَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْجُلُوسَ مُتَرَبِّعًا، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّرْبِيعِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُلُوسِ التَّشَهُّدِ، وَمَنْ كَرِهَهُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُلُوسِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا صِفَةُ صَلَاةِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ وَلَا عَلَى الْجُلُوسِ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا يُصَلِّي مُضْطَجِعًا، وَقَوْمٌ قَالُوا: يُصَلِّي كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَهُ، وَقَوْمٌ قَالُوا: يُصَلِّي مُسْتَقْبِلًا رِجْلَاهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْجُلُوسَ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ عَلَى جَنْبِهِ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا وَرِجْلَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

.الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَجَبْرِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ خَلَلٍ:

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَشْتَمِلُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الَّتِي لَيْسَتْ أَدَاءً، وَهَذِهِ هِيَ: إِمَّا إِعَادَةٌ، وَإِمَّا قَضَاءٌ، وَإِمَّا جَبْرٌ لِمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ بِالسُّجُودِ. فَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِذًا ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ.
الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْإِعَادَةِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي الْقَضَاءِ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي الْجُبْرَانِ الَّذِي يَكُونُ بِالسُّجُودِ.

.الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْإِعَادَةِ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ:

وَهَذَا الْبَابُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِعَادَةَ، وَهِيَ: مُفْسِدَاتُ الصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ عَمْدًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ نِسْيَانًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ مِنْ أَجْلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الشُّرُوطِ الْمُصَحِّحَةِ. وَهَاهُنَا مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ خَارِجَةٌ عَمَّا ذُكِرَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَمِنْهَا:

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [الْحَدَثُ]:

أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِذَا كَانَ قَدْ ذَهَبَ مِنْهَا رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ قَبْلَ طُرُوِّ الْحَدَثِ أَمْ يَبْنِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنَ الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْنِي لَا فِي حَدَثٍ، وَلَا فِي غَيْرِهِ مِمَّا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ إِلَّا فِي الرُّعَافِ فَقَطْ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَبْنِي لَا فِي الْحَدَثِ وَلَا فِي الرُّعَافِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى أَنَّهُ يَبْنِي فِي الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي جَوَازِ ذَلِكَ أَثَرٌ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنَّمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَعَفَ فِي الصَّلَاةِ فَبَنَى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنَ الصَّحَابِيِّ يَجْرِي مَجْرَى التَّوْقِيفِ إِذْ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا بِقِيَاسٍ أَجَازَ هَذَا الْفِعْلَ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الرُّعَافَ لَيْسَ بِحَدَثٍ أَجَازَ الْبِنَاءَ فِي الرُّعَافِ فَقَطْ، وَلَمْ يُعَدِّهِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَدَثٌ أَجَازَ الْبِنَاءَ فِي سَائِرِ الْأَحْدَاثِ قِيَاسًا عَلَى الرُّعَافِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا انْصَرَفَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ فِيهَا فِعْلًا كَثِيرًا لَمْ يُجِزِ الْبِنَاءَ لَا فِي الْحَدَثِ وَلَا فِي الرُّعَافِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ أَوْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ: الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ. وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ»، وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَرِضَةً كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي» وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ أُبَيٍّ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي كَرَاهِيَةِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ إِذَا صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ أَوْ مَرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ، وَلَمْ يَرَوْا بَأْسًا أَنْ يَمُرَّ خَلْفَ السُّتْرَةِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُومِ لِثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: «لَقَدْ أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصُّفُوفِ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ ذَلِكَ أَحَدٌ» وَهَذَا عِنْدَهُمْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِنَّمَا اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، لِمَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيه: «فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ]:

اخْتَلَفُوا فِي النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَوْمٌ كَرِهُوهُ وَلَمْ يَرَوُا الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ، وَقَوْمٌ أَوْجَبُوا الْإِعَادَةَ عَلَى مَنْ نَفَخَ، وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يُسْمِعَ أَوْ لَا يُسْمِعَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ النَّفْخِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا أَوْ لَا يَكُونَ كَلَامًا.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [الضَّحِكُ فِي الصَّلَاةِ]:

اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الضَّحِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّبَسُّمِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ التَّبَسُّمِ بَيْنَ أَنْ يُلْحَقَ بِالضَّحِكِ أَوْ لَا يُلْحَقَ بِهِ.